الجمعة 8 رمضان 1441هـ

الموافق 1 مايو 2020 م

الحمدُ لله رب الأرباب، ومُسبِّب الأسباب، مُعظِم الأجر ومُجزِل الثواب، نحمدُه  سبحانه  ونشكرُه، والَى علينا نعمَه وهو الكريمُ الوهاب، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله إلا هو عليه توكلنا وإليه متاب، ونشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُ الله ورسولُه المُنتخَبُ من أشرف الأنساب، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابِه الغُرِّ الميامين خيرِ آلٍ وأكرمِ أصحاب، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم المآب وسلم تسليماً كثيراً.

أمّا بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

معاشر المسلمين: نعيش أيام رمضان في هذا العام، وقد أنتشر وعم  الوباء في مشارق الأرض ومغاربها، واجتاح الدول والمدن، ومنع بسببه السفر، وقطعت السبل، وأضحى الناس معه في أمر مريج، وكرب شديد.

يأتي رمضان في هذا العام على المسلمين وقد حال الوباء بينهم وبين تزاورهم وتواصلهم، وبين الصلاة والاعتكاف في مساجدهم؛ لئلا يتفشى الوباء فيهم باجتماعهم والتقائهم، ولا سيما أن هذا الوباء سريع العدوى، وهو أمر مؤلم ومحزن للمؤمن أن يدخل عليه رمضان ولا صلاة ولا تراويح ولا جمعة في المساجد والجوامع والأوبئة عباد الله دورة تطهيرية في الأرض يقدرها الله تعالى ليغير بها أحوال البشر فيسلطها على من يستحق العقاب، ويجعلها رحمة لأهل الإيمان واليقين، يقول صلى الله عليه وسلم عن وباء الطاعون: (أنَّه كانَ عَذَاباً يَبْعَثُهُ اللَّهُ علَى مَن يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فليسَ من أحد يصيبه الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ في بَلَدِهِ صَابِراً محتسباً يَعْلَمُ أنَّه لَنْ يُصِيبَهُ إلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ له، إلَّا كانَ له مِثْلُ أجْرِ الشَّهِيدِ) وقد تكرر وقوع الأوبئة في التاريخ كثيراً، حتى لا تكاد تحصى من كثرتها، وبعض البقاع موبوءة لا يفارقها الوباء إلا عاد إليها مرة أخرى، وقد دون المؤرخون من المسلمين أوبئة وطواعين كثيرة فتكت بالناس وغيرت عليهم حياتهم ونغصت معايشهم ولعل أكثرها فتكاً كان وباء الطاعون الذي انتشر أكثر من مرة قديماً وحديثاً في مصر والشام والقدس والعراق والمغرب والأندلس وجزيرة العرب والخليج العربي، ومات بسببه خلق كثير من ساكنيها من الصحابة والتابعين والخلفاء والأمراء والعلماء والقضاة وعامة الناس رحمهم الله وجعلهم من الشهداء عنده في جنات النعيم.

عباد الله: نقف معكم اليوم هذه الوقفات الشرعية لأخذ الدروس والعبر من هذا البلاء والوباء الذي حل وأصاب العالم بأسره.

الوَقْفَةُ الأُولَى: عند انتشار الأوبئة المعدية والأمراض يجب على المسلمين أن يؤمِنوا بقضاء الله وقَدَرِه، ويُحسِنوا ظنَّهم بربهم، ويتأدبوا مع خالقهم، فلا يتبرموا، ولا يسخطوا، بل يتجملوا بالصبر، ويُبصروا في الوباء والمرض  مِنَحاً ربانيةً وفضلًاً عظيماً، دخَل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أم السائب رضي الله عنها فقال: (ما لكِ يا أمَّ السائب؟ تُزَفْزِفِينَ؟ (ترتعدين) قالت: الحُمَّى لا بارَكَ اللهُ فيها. فقال: لا تَسُبِّي الحمَّى؛ فإنها تُذهِب خطايا بني آدم كما يُذهِب الكيرُ خبثَ الحديدِ)،وقال صلى الله عليه وسلم: (مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَن وَلاَ أَذًى وَلاَ غمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها إِلاَّ كفَّر اللَّه بهَا مِنْ خطَايَاه) وقال صلى الله عليه وسلم: (ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِه وولدِه ومالِه حتَّى يلقَى اللهَ تعالَى وما عليه خطيئةٌ) ونقول لمن أصيب بهذا الوباء، أو أبتلي بأمراض معدية أو لا يرجى برؤها: إنه ينبغي على المسلم المريض المبتلى أن يصبر ويحتسب الأجرَ عند الله تعالى، ولا ييأس من الشفاء، فالشفاء بيد الله تعالى وحده، فَلْيَتَضَرَّعْ وليلتجئ ولينكسر بين يدي الله تعالى، فإن الله سبحانه قريب لا يرد سائلاً، وما الطبيب ولا الدواء إلا وسائل لوقوع قضاء الله وقدره. فهذا أيوب عليه السلام يخبرنا الله تعالى عن خبره وما ابتلاه به من الضر في جسده، وماله، وولده، حتى لم يبق من جسده مغرز إبرة سليم سوى قلبه، ولم يبق له من حال الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه، ونفر عنه الخلق، غير أن زوجته حفظت ودَّه؛ لإيمانها بالله ورسوله فاستجاب الله له، وكتب له الشفاء. قال الله تعالى عنه: (وأيُّوبَ إذْ نادَى ربَّه أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وأَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمينَ، فاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ ومِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدَنَا وذِكْرَى لِلعَابِدِينَ) ولا يتمنى المسلم الموت لضرٍ نزل به؛ لما صح في الحديث من النهي عن القنوط من رحمة الله عز وجل، وليعلم أن ابتلاء الله له بهذا المرض علامة على حب الله لعبده لتمحيصه من ذنوبه في دار الدنيا الفانية ليرتفع درجات في دار الآخرة الباقية، فما يصيب المسلم شيء إلا كفر الله به من خطاياه، وما عند الله خير وأبقى.

الوقفة الثانية: إن الواجب على كلٍّ مسلمٍ ومسلمة أن يكونا في أحوالهما كلها معْتصمين بربِّهم جلّ وعلا، متوكِّلين عليه، معتقدين أنّ الأمور كلّها بيده: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)

(قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فالأمور كلُّها بيد الله وطوْع تدبيره وتسخيره؛ فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا عاصم إلَّا الله، يقول تعالى: (قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً) ويقول صلى الله عليه وسلم: (وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ). فالواجب على كلّ مؤمن أن يفوّض أمره إلى الله عز وجل، راجياً طامعاً معتمداً متوكِّلاً، لا يرجو عافيته وشفاءه وحفظه وسلامتَه إلَّا من ربِّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فلا تزيدُه الأحداثُ ولا يزيدُه حلول المصائب إلا التجاءً واعتصاماً بالله تعالى: (وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).. وأن يتذكر المؤمن دائماً أنه لا يَكْشِفُ الضُّرَّ إلا الله سبحانه، قال تعالى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وقال تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ). وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ).

الوَقْفَة الثالثة: إنّ الواجب على كلِّ مسلم ومسلمة أن يحفظا اللهَ جلّ وعلا بحفْظِ طاعته امتثالاً للأوامر واجتناباً للنواهي، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصيّته لعبد الله بن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما ولكل مؤمن: (أحْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، أحْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ). فالمحافظة على أوامر الله امتثالًاً للمأمور وتركاً للمحظور سببٌ لوقاية العبْد وسلامته وحفْظِ الله جلّ وعلا له في دنياه وأخراه، فإن أُصيب بمصيبة أو نزلت به ضرّاء فلن تكون إلاَّ رفعة له عند الله، وفي هـذا يقول نبيُّنا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: (عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ). فالمؤمن في سرّائه وضرّائه وشدّته ورخائه من خيرٍ وإلى خيرٍ، وذلك كما قال نبيّنا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: (وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ).. الوقفة الرابعة:إن من واجب المسلم والمسلمة بل الناس جميعاً في مثل هذه النوازل والأوبئة اللجوء إلى الله تعالى بالتضرع والدعاء والتوبة والأوبة إليه، وترك الذنوب والمعاصي والإكثار من الطاعات والأعمال الصالحات: من تلاوة للقرآن، وذكر لله تعالى، ودعاء وتضرع وتوبة واستغفار، وصلاة وقيام وصدقات، قال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: (ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة) وأبلغ من هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (لم تظهرْ الفاحشةُ في قومٍ قَطُّ حتى يُعلنوا بها إلا فَشَا فيهمُ الطاعونُ والأوجاعُ والأمراض التي لم تَكُنْ في أَسْلافِهمُ الذين مَضَوْا). وكلنا عباد الله ذوو أخطاء وذنوب وكل إنسان أدرى بما بينه وبين ربه من ذنوب ومعاص ومخالفات، وعليه أن يتفقد قلبه ونفسه، والواجب على الناس إذا نزلت بهم الأوجاع والأوبئة، أن يلجئوا إلى الله ويبتهلوا إليه، ويتوبوا من ذنوبهم لعل الله أن يرحمهم، فيزيل ويرفع عنهم البلاء، وقد يبتلي الله عباده بسبب ذنوبهم، فيصيبهم بالبأساء والضراء لعلهم يذكرون فينيبون ويلتجئون إليه ويتوبون ويتضرعون كما قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) وقال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وقال سبحانه: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وقال جل وعلا: (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) وقال تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) قال الصحابة رضوان الله عليهم  في تفسير هذه الآية: كان هناك أمانان  على عهد رسول الله، أنزلهما الله تعالى على عباده، فأما أحدهما فهو نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم وقد مضى ومات، وأما الآخر فأبقاه الله تعالى رحمة بالأمة والعباد من بعده وهو الاستغفار والتوبة والرجوع إلى الله الوقفة الخامسة: إن من هدي الإسلام في التعامل مع الوباء عدم الذهاب إلى الأرض التي ينتشر فيها، وعدم الخروج منها؛ إلا بعد تأمين قدوم المسافرين، يدل على ذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأرْضٍ، فلاَ تَقْدمُوا عَلَيْهِ، وإذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلا تخْرُجُوا فِرَاراً مِنْهُ) والمشروع لمن كان داخل البلد ونطاق البقعة الموبوءة ألَّا يخرج من مكانه ذلك؛ لما في الخروج من المفاسد العديدة؛ فقد يؤدي إلى اتساع نطاق الوباء فيضر بالناس انتقاله؛ ولهذا قال أهل العلم: إن المرض ليس مختصًّاً بالبقعة ولكنه متعلق بالأشخاص فالخروج لا يغني عن المرء شيئاً بل إنه يفاقم الحالة.. وهذا الحديث يدل على أن الإسلام سبق إلى ما يسمى بالحجر الصحي؛ فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الاختلاط بأهل المرض المعدي فقال: (فِرَّ مِنَ المَجْذومِ كَما تَفِرُّ مِنَ الأسَد) وقال: (لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ علَى مُصِحٍّ) ومن هنا يعلم أن ما اتخذه قادة البلاد والحكومة الموقرة وفقهم الله، من إجراءات صحية،  كالحجر الصحي، وتخصيص أماكن لعزل القادمين من الخارج، المشتبه بإصابتهم بهذا الداء، ومنع السفر لأماكن الوباء، وإغلاق بعض المحلات التجارية وتعليق الصلوات في المساجد والجمع وتعليق العمرة والزيارة مؤقتاً، وحث الناس على البقاء في البيوت ولبس الكمامات وعدم المصافحة والمعانقة،  هو من هذا الباب والهدي الإسلامي، ويحقق مقاصد الشريعة في حفظ النفوس والأبدان؛ فالواجب التكاتف والتعاون مع الجهات المختصة في البلاد  في هذا الأمر المهم. نسألُ الله عز وجل أن يرحما برحمته وأن يـرفعَ عنَّا وعن المسلمين وعن العالم كُلَّ ضرٍّ وبلاء ووباء، وأن يكشِفَ عنَّا الشِّدَّةَ واللَّأْواءِ، وأن يحفظنا أجمعين بما يَحْفَظُ به عبادَه الصالحين، إنَّه وليُّ ذلك والقادرُ عليه.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

رمضان فرصة للتغيير

الحمد لله الذي خصّ شهر رمضان بمزيد الفضل والإكرام، نحمده سبحانه ونشكره على إحسانه وفضله العام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أفضل من صلى وصام، وأتقى من تهجّد وقام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا أيها الصائمون والصائمات: لقد جبل الإنسان على التقصير وعلى النقص، ومن سعة رحمة الله تعالى، أن يسر للمؤمن مواسم خير يسد فيها الخلل، ويكمل فيه النقص والتقصير، ومن هذه المواسم شهر رمضان المبارك، الذي هو أعظم فرصة لنغير فيها أشياء كثيرة في حياتنا، وإن لم نتغير في رمضان فمتى نتغير؟  وان لم نصلح حالنا في رمضان، فهل عساه ينصلح من بعده؟ فرمضان فرصة للتائبين الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي والذنوب، فالشياطين قد صفدت، وأبواب الجنان قد فتحت، ودواعي الخير قد أقبلت، ووجدت على الخير معيناً، فكل من حولك يا عبد الله ما بين صائم وقائم ومتصدق وقارئ وخاشع وباك، يحفز ويحض على التوبة والرجوع إلى الله عز وجل  فإلى متى البعد والغفلة وقسوة القلب.. إن شهر رمضان خطوة نحو التغيير، لمن كان مفرطًاً في صلاته، فلا يُصليها مطلقًاً، أو يؤخرها عن وقتها، بأن يواظب على أداء الصلوات في أوقاتها، فأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، فإذا صَلُحَت صَلُح سائر عَمَلِه وإذا فَسَدت فَسَدَ سائر عمله ورمضان خطوة نحو التغيير لمن خاصم أحداً من الناس أن يعفو ويصفح ويسامح قال تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا، أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). ورمضان خطوة نحو التغيير لمن قطع رحمه أن يصلها؛ فصلة الرحم تزيد في الرزق وتطيل العمر، ومن وصلها وصله الله تعالى..

أيها المسلمون: رمضان خطوة نحو التغيير لمن اعتاد الإسفاف في الكلام أن يُغَيِّر من نَفسه فلا يتكلم إلا بخير، ولا يقول إلا خيراً؛ فالكلمة الطيبة صدقة، وحِفظ اللسان طريق لدخول الجنة والنجاة من النار؛ يقول صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالى مَا يُلقِي لهَا بَالًاً يَرْفَعُهُ اللَّه بهَا دَرَجاتٍ، وَإنَّ الْعبْدَ لَيَتَكلَّمُ بالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ تَعالى لا يُلْقي لهَا بَالًا يهِوي بهَا في جَهَنَّم) عياذا بالله… ورمضان فرصة للتغيير لمن تجرأ على ظلم الناس وتعاطي الرشوة والتزوير والسرقة والاختلاس ليعاهد الله تعالى على ترك السحت والمال الحرام قبل أن يفجأه الأجل، ولات ساعة مندم.. ورمضان عباد الله خطوة نحو التغيير لمن هجر قراءة القرآن الكريم وتدبره والعمل بما فيه، بأن ينتهز شهر القرآن فيحدد لنفسه ورداً مُعَيَّنًاً يُحافِظ عليه في كل يوم… ورمضان خطوة نحو التغيير لمن اعتاد الشح والبخل أن يكثر من الصدقات؛ فالله سبحانه وتعالى يُربي الصدقة لصاحبها حتى تصير مثل الجبل، قال تعالى (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ)

أيها الصائمون والصائمات: وحتى نقوم بالتغيير يجب علينا أن نواجه نفوسنا بأخطائها ومعاصيها، ولا نتنصل من تلك الأخطاء، بأن نجد لها المبررات، ولنعلم أننا لن نصلح من شأننا إلا إذا كنا عازمين ومصرين حقاً على التغيير، فلنكن جادين في تغيير نفوسنا من الآن، ولا نؤجل ولا نسوف،فلنستعن بالله أولاً وأخيراً، ولتكن لنا إرادة وعزيمة قوية، في أن نغيِّر نفوسنا إلى الأفضل، ولنعلم أن التغيير لا بد أن يبدأ من أعماق نفوسنا، وأن الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فدربوا نفوسكم وعودوها على الطاعة، واستعينوا بالله عز وجل، واطلبوا منه أن يوفقكم لما يحب ويرضى، وليكن شعارنا وشعاركم:

لأسْتَسْهِلَنَّ الصَّعْبَ أوْ أبْلُغَ المُنى

فَما انقادَت الآمالُ إلا لصابرِ

اللهمَّ آتِ نَفوسنا تَقْوَاها، وزَكِّها أنت خيرُ مَن زكَّاها، أنت وَلِيُّها ومولاها.. اللهم رحمتَك

نرجو، فلا تَكِلْنا إلى أنفسنا طَرْفَةَ عين، وأَصلِح لنا شَأننا كلَّه، لا إله إلا أنت..

اللهم ارفعْ وأدفع عنَّا البَلاءَ والوَباءَ والغلا والرِّبا والزِّنا والفواحش والزَّلازلَ والمِحَنَ وسَيءَ الأسقَامِ والأمراضِ، ما ظهرَ منها وما بطنَ عن بلدِنا البَحرينِ خاصةً وعن سَائرِ بلادِ المسلمينَ والعالم عامةً يا ربَّ العالمينَ.. لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ.. لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّا كُنْا مِنَ الظَّالِمِينَ..

تحصنا بذي العزة والجبروت، واعتصمنا بذي الملك والملكوت، وتوكلنا على الحي الباقي الذي لا يموت، اللهم اصرف عنا هذا الوباء، وقنا شر الداء، ونجنا من البلاء إنك على كل شيء قدير.

اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في وطننا، وفي خليجنا ووفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين… اللهم وفِّق العاملينَ والمتطوعين في فريق البحرين الوطني في القطاع الصحي والعسكري والأمني والتطوعي  في بلدنا هذا خاصةً، وفي كل مكان يا رب العالمينَ، اللهم أَعِنْهم وانفع بهم، وبارك في جهودهم، وسدِّد رأيَهم وألهمهم الصوابَ والرشدَ، وأحفظهم من كل سوء ومكروه برحمتك وفضلك وجودك يا أرحم الراحمين. اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم إن لنا أحباباً قد فقدناهم، وفي التراب وسدناهم، اللهم فأجعل النور في قبورهم يغشاهم، واكتب ياربنا الجنة سكناهم، وأكتب لنا في دار النعيم لقياهم إنك مولانا ومولاهم.

اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين…

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

    خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين